محمد عايش
الحرب الإسرائيلية الحالية التي تستهدف قطاع غزة، أعادت القضية الفلسطينية إلى صدارة الاهتمام في العالم العربي، وأعادتها إلى مكانها الطبيعي، الذي هو القضية المركزية الأولى للأمة والقاسم المشترك الأكبر لكل عربي ولكل مسلم، ولو لم تحقق هذه الحرب شيئاً غير هذا لكفاها.
إسرائيل خسرت معركة الرأي العام، ولم تعد قادرة على تسويق روايتها على الرغم من سيطرة الموالين لها على وسائل الإعلام التقليدية الكبرى في العالم الغربي
ولم تُشعل هذه الحرب شرارة التضامن العربي فقط مع فلسطين، وإنما أشعلت موجة تضامن عالمية غير مسبوقة مع الفلسطينيين، والأهم من ذلك أنها دفعت الملايين من الأجانب وغير الناطقين بالعربية ولا العارفين بالإسلام إلى الالتفات إلى هذه القضية والبدء بالبحث في ما يجري على الأرض الفلسطينية، بل اللافت أيضاً هو أن أغلب هؤلاء الملايين ينشغلون حالياً بالبحث عن أصول القضية الفلسطينية وجذورها، وكيف بدأ الصراع، لأنهم رفضوا الفكرة التي يروجها الإعلام الغربي التقليدي والمنحاز، الذي أراد أن يبدأ الرواية من يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، حيث انتبه الكثيرون بأن يوم السابع من أكتوبر ليس سوى بداية فصل جديد من رواية بدأت قبل عقود وليس الآن. خلال هذه الحرب أصبح اسم غزة يتردد في كل مكان من العالم تقريباً، وأصبحت غزة هي الكلمة الأكثر بحثاً على الإنترنت، كما أن الحدث الفلسطيني يتصدر بشكل يومي اهتمامات الشارع في دول أوروبا والولايات المتحدة وحتى أمريكا اللاتينية وأستراليا والصين وشرق آسيا، وهو ما يعني أن العالم كله أصبح يريد أن يعرف ما الذي يجري، وما جذور الحكاية، وهذا معناه أن إسرائيل خسرت بالضرورة وبكل تأكيد معركة الرأي العام، ولم تعد قادرة على تسويق روايتها على الرغم من سيطرة الموالين لها على وسائل الاعلام التقليدية الكبرى في العالم الغربي. وبالعودة إلى منطقتنا العربية، فخلال الفترة التي سبقت الحرب على غزة، وطيلة السنوات العشر الماضية تقريباً، كانت القضية الفلسطينية قد تراجعت إلى حد كبير من حيث اهتمام الشارع بها، بل بدأت تظهر الأصوات التي تتعمد تهميش ما يجري في الأراضي الفلسطينية، وتحاول أن تروج لفكرة أن «فلسطين ليست قضيتي»، بل وصل الحال في بعض الشواذ فكرياً وعقائدياً إلى القول بأن المسجد الأقصى المذكور في القرآن الكريم ليس هو الذي نعرفه ويعرفه كل البشر في القدس المحتلة، وإنما هو مسجد في الطائف بالسعودية ولا علاقة لفلسطين به، وهي محاولة لنزع القدسية الدينية والمكانة الرفيعة لمدينة القدس ولأرض فلسطين من قلوب وعقول المسلمين.
الحرب الضروس على غزة أفشلت أيضاً مشروع التطبيع العربي، والاختراق الإسرائيلي لمنطقتنا العربية، حيث كانت الدول العربية تتساقط واحدة تلو الأخرى في الحضن الإسرائيلي، وكانت تل أبيب قد بدأت تستفيد من موجة تطبيع غير مسبوقة، إذ لم يكن الإسرائيليون يحلمون في السابق بمثل هذه الحالة من التطبيع التي شهدناها في السنوات الأخيرة، فجاءت هذه الحرب لتنسف كل ما حصدوه في هذه السنوات السابقة، بل إن التفاعل الشعبي العربي غير المتوقع مع هذه الحرب ورد الفعل الداعم للفلسطينيين، لم يعطل مسار التطبيع فحسب، وإنما مسح كل ما تم من خطوات سابقاً في هذا المسار، وأعاد الشارع العربي إلى مربع التعامل مع إسرائيل على أنه قوة احتلال معادية، لا يُمكن الوثوق فيها ولا الاطمئنان لأية علاقة سياسية أو دبلوماسية أو اجتماعية معها. في هذه الحرب أيضاً قرر الشارع العربي من محيطه إلى خليجه معاقبة الداعمين لإسرائيل، عبر مقاطعة الشركات التي أيدت الاحتلال والعدوان على غزة، ورغم أن حملات المقاطعة لهذه الشركات ليست جديدة، بل تعود إلى سنوات مضت، خاصة خلال انتفاضة الأقصى وما بعدها، إلا أنها تختلف تماماً هذه المرة، إذ في الأردن مثلاً تقول الاستطلاعات إن الملتزمين بالمقاطعة والمتحولين إلى المنتج الوطني تبلغ نسبتهم 95%، وهذه نسبة تكاد تكون أشبه بالسحر أو الخيال، إذ أنها تعني بأنك تكاد لا تجد مواطناً أردنياً يشتري مشروباً غازياً أمريكياً، أو يدخل مطعماً بعلامة تجارية أجنبية. والحال نفسه بطبيعة الحال في المغرب، التي أعلنت «ستاربكس» أنها ستغادر بشكل نهائي، وهو ما يعني ضمنياً أن الشعوب العربية قادرة على طرد هذه الشركات من بلادها بشكل سلمي وعبر المقاطعة التجارية فقط.. والأمثلة على ذلك كثيرة.
والخلاصة هو أن الحرب الأخيرة على غزة أعادت القضية الفلسطينية إلى صدارة الاهتمام العربي والعالمي، وأعادت شرح أصول الصراع مع الاحتلال وتاريخه وجذوره لملايين البشر، وأفشلت موجة التطبيع العربي مع الاحتلال، التي كانت إسرائيل تعول عليها الكثير من أجل اختراق الأسواق العربية والاندماج في المنطقة، كما أنها أشعلت موجة تضامن غير مسبوقة في الشارع العربي حتى غدا علم فلسطين لا يغيب عن شارع ولا زقاق ولا محل تجاري في الكثير من بلادنا العربية، وهذه ليست سوى قليل القليل من نتائج هذه الحرب.
كاتب فلسطيني